الجمعة، 20 أغسطس 2010

في اسباب اخفاق مشاريع المصالحة الوطنية في البلاد العربية



برهان غليون


احتلت قضية المصالحة الوطنية ولا تزال موقعا مركزيا في النقاش والحراك السياسيين في العالم العربي للسنوات القليلة الماضية. وفي جميع الحالات التي طرحت فيها قضية المصالحة هذه، لم يكن الأمر يتعلق -كما كان من الممكن أن نتوقع- بعملية رأب الصدع بين تيارات أهلية متنازعة أو بين قطاعات متنابذة من الرأي العام وإنما بين أصحاب الدولة الذين أصبحوا طبقة متميزة تحتكر السلطة والثروة والمعرفة معا من جهة، والشعب الذي يجمع بين جميع الطبقات الأخرى ويوحد في ما بينها في شروط الهامشية والهشاشة والتبعية من جهة ثانية.

يعكس ترديد هذا الشعار في أكثر من بلد عربي وتحوله إلى شعار مركزي إذن القطيعة المتزايدة بين الدولة والمجتمع. وأصل هذه القطيعة ليست حربا أو نزاعا تاريخيا واعيا ولكن طبيعة العلاقة الشاذة التي نشأت بسبب عوامل داخلية وخارجية عديدة بين الفئات الحاكمة والشعب بمجموعه، فسمحت للأولى بوضع اليد بشكل لا قانوني ولا شرعي على موارد البلاد المادية والمعنوية، ودفعت الثاني بما يضمه من الطبقات والفئات والأوساط الشعبية إلى عالم الحرمان والموت البطيء.

وليس موضوع الصراع الناشئ من حول هذه العلاقة وبسببها سوى التحكم بالدولة لما يعنيه من حيازة موقع قوة استثنائي وما يضمنه لأصحابه من سيطرة على الموارد الوطنية. فنحن نعيش في جميع المجتمعات العربية، وعلى درجات مختلفة، الصراع الدامي بين أولئك الذين يريدون تحويل الدولة إلى ملكية خاصة ومن خلالها إلى احتكار الموارد الوطنية بالقوة وحرمان الآخرين منها، وأولئك الذين يسعون بجميع الوسائل إلى تعميم الفوائد التي تنتجها على أكبر قاعدة اجتماعية ممكنة ويبذلون في سبيل ذلك جهودا جبارة لكسر هذا الاحتكار والدخول في مجتمع الشراكة الوطنية والسيادة الفردية. وهو النزاع الذي يخفي أيضا صراعا حول مفاهيم وتصورات مختلفة ومتناقضة للسلطة وللهوية الاجتماعية والوطنية معا.

"
المصالحة الوطنية هي البديل المطروح عن الثورة أو الانقلاب الذي يمثل آلية انتزاع الحكم بالقوة للدخول إلى ميدان السلطة وطرد المستولين عليها بسلاح القوة نفسه الذي استخدموه ولا يزالون للإبقاء على احتكارهم لها
"
لكن مركزية شعار المصالحة الوطنية في الحياة السياسية العربية الراهنة لا تعكس القطيعة بين الدولة/الطبقة والمجتمع واستمرار النزاعات الحاسمة التي هي في أساس تشكيل الوطنية أو معيار الانتماء للدولة ونمط العلاقة بين الأفراد الذين يكونونها والقيم المرتبطة بها، فحسب، إنها تنطوي أيضا على اقتراح ضمني بالدعوة إلى حل سلمي للأزمة القائمة بين الجماعة الحاكمة والشعب يضمن الانتقال إلى وضع طبيعي دائم من دون تعريض استقرار الدولة أو الوحدة الوطنية للخطر.

فلا تعني المصالحة الوطنية في الواقع سوى السعي المشترك إلى وضع حد لهذا الاحتكار أو القبول بفتح مفاوضات حول توزيع السلطة والموارد العامة مقابل تنازل الطرف الأضعف في المعادلة عن حقوقه عن الحقبة الماضية وكذلك عن حقه في الثروات المراكمة بصورة لا شرعية.

فالمصالحة هي البديل المطروح عن الثورة أو عن الانقلاب الذي يمثل آلية انتزاع الحكم بالقوة للدخول إلى ميدان السلطة وطرد المستولين عليها بسلاح القوة نفسه الذي استخدموه ولا يزالون للإبقاء على احتكارهم لها واستملاكهم الشخصي لمواردها.

يعبر طرح مبدأ المصالحة من دون شك عن تطورين مهمين حصلا في السنوات القليلة الماضية. التطور الأول يتصل بتنامي الشعور عند طبقات الشعب المختلفة بالغبن الواقع عليها نتيجة التجربة وتغير الأوضاع الدولية والإقليمية. وهو ما كان صعب الحصول في العقود الماضية بسبب شلل الفكر وتشوش الوعي السياسي الخاضع لضغط الأيديولوجيات الشمولية المختلفة.

والتطور الثاني يشير إلى نوع من الواقعية والبراغماتية التي ترافق يقظة الوعي السياسي هذا. فهو في الوقت الذي يكتشف الغبن الكبير الذي يشكله التهميش الجماعي للمجتمع يعبر أيضا عن قبول الطرف الضعيف بتسوية غير عادلة يتغاضى بموجبها طوعا عن حقوقه السابقة بشرط أن يقبل الطرف الأقوى أيضا بوضع حد للعلاقة الشاذة والعودة اعتبارا من الآن إلى حكم القانون.

لكن بصرف النظر عن موقف السلطة القائمة، لا يعكس شعار المصالحة الوطنية تقدما في الوعي السياسي فحسب وإنما يشير أيضا إلى إعادة هيكلة الحقل السياسي.

فهو يدل على نشوء فاعل اجتماعي سياسي جديد يطرح على الطبقة الحاكمة التي بقيت حتى الآن متفردة بالأمر، أي بمهام التصور والتقدير والتقرير والتنفيذ التي تشكل جوهر السلطة، مسألتين مترابطتين. مسألة الاعتراف بالتعددية وما تتضمنه من صراع حول البرامج والتوجهات المجتمعية والثقافية، ومسألة التغيير التي ترتبط بإخراج السياسة من مجال اللامفكر فيه إلى مجال التأمل والشفافية والمسؤولية.

"
يعكس مشروع المصالحة الوطنية ولادة حراك سياسي جديد يقود حتما، من خلال ديناميكية الصراع الثنائي بين الحاكم والمحكوم، إلى كسر السكون والأحادية القديمة والطويلة اللذين سمحا بإعادة إنتاج السلطة الاحتكارية
"
وهكذا يعكس مشروع المصالحة الوطنية ولادة حراك سياسي جديد يقود حتما، من خلال ديناميكية الصراع الثنائي بين الحاكم والمحكوم الذي أدرك معنى الحكم ومضمونه، إلى كسر السكون والأحادية القديمة والطويلة اللذين سمحا بإعادة إنتاج السلطة الاحتكارية والانفرادية من دون تغيير لعقود طويلة بقدر ما مكنا الطبقة الحاكمة من الجمع في قبضة واحدة بين السلطة السياسية والاقتصادية والرمزية.

فهذا الجمع هو الذي مكن النخب الحاكمة من احتكار التعامل بالشأن العمومي وتحويل المجتمع بأكمله إلى مجموعات مصالح اقتصادية ومهنية مستقلة يقف دورها عند الشأن الخاص. وبقدر ما حرمت المجتمع من تكوين رؤية شمولية أو وطنية تعنى بالمصير العام في ما وراء الانقسامات المهنية حكمت عليه بانعدام التأهيل السياسي وجعلت مصير الوحدة المجتمعية معلقا بين يدي الطبقة الدولة وحدها.


ليس من المستغرب إذن أن تبوء جميع مشاريع المصالحة الوطنية بالفشل ولا أن ترفض الطبقات الحاكمة العربية النظر بجدية إلى أي دعوة من هذا القبيل وتزدري بشدة أصحابها.

فهي ترى في دعوة هؤلاء محاولة لتفجير تناقضات ونزاعات ولفتح جراحات تعمل المستحيل للتغطية عليها. ومن منطق الحفاظ على الأمن والنظام والاستقرار لا تتردد السلطات العربية في اتهام أصحاب دعوة المصالحة بالتآمر مع القوى الأجنبية لضرب الوحدة الوطنية.

فلا يبرر الظلم والاستبداد وانعدام القانون وسوء الأوضاع المعيشية في نظرها لأي كان تعرية النظام أمام القوى المتربصة به الداخلية والخارجية.

إن دعوة المصالحة الوطنية تظل في نظر السلطات القائمة ذريعة لقلب الأوضاع وضرب الاستقرار. وليس المنادون بها سوى أدوات واعية أو غير واعية في يد إستراتيجيات الدول الأجنبية.

ومما يزيد من ميل الفئات الحاكمة إلى ازدراء أصحاب المصالحة أن أغلب الداعين لها هم من المثقفين الذين استعادوا وعيهم المدني العمومي والذين يفتقرون أكثر من أي فئات اجتماعية أخرى، إلى الوسائل الضرورية لإحداث التغيير، وهي التي لا يمكن أن تكون في نظر السلطات العربية التي استبطنت احتقار الرأي العام وضمنت شله، سوى وسائل العنف والتحالفات الدولية.

"
دعوة المصالحة الوطنية تظل في نظر السلطات القائمة ذريعة لقلب الأوضاع وضرب الاستقرار, وليس المنادون بها سوى أدوات واعية أو غير واعية في يد إستراتيجيات الدول الأجنبية
"
هكذا لم يكن مآل مشاريع المصالحة الوطنية في عراق صدام وفي مصر وفي سوريا وليبيا والعديد من البلاد العربية الأخرى سوى تفجير أحقاد النظام على المعارضة الوليدة والسعي بجميع الوسائل إلى البطش بها وتجريمها.

تفترض المصالحة الوطنية التفكير بتسويات تفاوضية لمواجهة التحديات والمشاكل الوطنية لا يمكن تحقيقها من دون اعتراف الأطراف المختلفة بوجود بعضها بعضا وبشرعية المطالب التي يرفعها.

والحال أن الطبقات العربية الحاكمة لا تعتبر نفسها فئات من بين فئات عديدة أخرى ذات مصالح معينة وإنما تتماهى كليا مع المجتمع بقدر ما تطابق بين وجودها ووجود الدولة التي تمثل الشعب.

فهي ليست حتى الممثلة الشرعية الوحيدة للشعب ولكنها الشعب ذاته ممثلا بما تجسده هي من القيم الوطنية والاجتماعية والدينية والثقافية. فهي الضامن لوجوده والمؤتمن على مستقبله. ولا يمكن أن تعترف بوجود فريق آخر يعبر عن الشعب أو عن جزء من مصالحه من دون أن تضع هذا التماهي المطلق بين الفئة الحاكمة والشعب والدولة موضع الشك والسؤال.

فوجودها كله نابع من تغييب مفهوم الشعب والطبقات والفئات والمصالح والتيارات المتباينة لصالح فرض هذا المفهوم التطابقي الوهمي للحكم والدولة والشعب وتعميمه. ولذلك بينما يريد أنصار المصالحة الوطنية من مشروعهم تأكيد إيجابية تعاملهم مع السلطة ولا يرون فيه سوى مطالب جزئية يمكن إجمالها تحت مفهوم إصلاح النظام، بما يعني تخليهم عن الدعوة لتغييره وبالتالي القبول بالعمل في إطاره وتحت سلطة القائمين على الأمر، تنظر الطبقة الحاكمة إلى أي تنازل مهما كان صغيرا في إطار مفهوم المصالحة هذا على أنه تهديد كلي لوجودها، أي للمنطق الشمولي الذي يحكم هذا الوجود. وهي لا تكف عن اتهام المعارضة بنيتها في تغيير نظام الحكم من وراء المطالبة بإصلاحات جزئية تتضمن الاعتراف بوجود معارضة والحوار أو التفاوض معها.

والواقع أن مبدأ التفاوض والحوار الذي تستدعيه المصالحة هو الذي يثقل على كاهل النخب الحاكمة. فهي مستعدة للقيام بالكثير من الإصلاحات لكن بشرط أن لا تكون مسمية على المعارضة أو مرتبطة بها. بل هي مستعدة أبعد من ذلك للاعتراف بالمعارضة كممثلة لبعض المصالح الأصنافية الخاصة، لكن ليس كأطراف سياسية، أي ليس كحاملة لوجهة نظر سياسية ولمشروع مجتمعي يعنى بالمصير العام وبالتالي كمنافس سياسي.

"
ليس لمشروع الإصلاح بداية أخرى سوى وضع حد لأحادية الحكم وفتح السياسة على المجتمع والاعتراف بحق الجميع في المشاركة المتساوية في التصور والتقدير والتقرير والتنفيذ في كل ما يتعلق بالمصير العام
"
ولهذا فهي تكاد تعلن عن استعدادها لتنفيذ مطالب المعارضة جميعا في الإصلاح إذا قبلت هذه الأخيرة التخلي عن تسمية نفسها معارضة وسحبت مشروعها السياسي من التداول وقبلت بالعمل تحت راية النظام وبمواكبته. ولهذا يصبح الهجوم على المعارضة وتفتيتها والهزء منها هو مشروع الإصلاح الوحيد الذي يحظى بأمل التطبيق.

ليس هناك إصلاح ولا أمل في أي إصلاح أو تطوير أو تحديث في أي بلد عربي أو غير عربي من دون الاعتراف بتعدد المصالح المجتمعية وتعددية تمثيلها من قبل القوى السياسية في الوقت نفسه، أي من دون تحطيم هذا التصور الشمولي للمطابقة الخرافية بين السلطة والدولة والمجتمع، وهو التصور الذي يغلق النقاش والحوار والفهم ويلغي التاريخ أو يجمده عند أقدام النخبة الحاكمة.

وليس لمشروع الإصلاح بداية أخرى سوى وضع حد لأحادية الحكم وفتح السياسة على المجتمع والاعتراف بحق الجميع في المشاركة المتساوية في التصور والتقدير والتقرير والتنفيذ في كل ما يتعلق بالمصير العام.

وهذا ما يتناقض كليا مع مفهوم الإصلاح الذي يبدو أن الأنظمة العربية قد أخذت به وأقرته أخيرا، والقائم على رفض الحقوق السياسية والقبول بمبدأ تقاسم الثروة والسلطة الجزئي مع النخب المهمشة أو الخارجية، الاقتصادية والتقنوقراطية.

لكن هذا المبدأ التقاسمي هو في الواقع الأساس العميق لانحرافات السلطة الخطيرة في الماضي والحاضر بقدر ما هو الأصل والمنبع السياسي لكل أشكال الفساد. والتمسك به يعني أننا لا نزال لم نخرج بعد من عصر "السلبطة" والجاهلية الوطنية والسياسية.
ــــــــــــ
كاتب سوري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق