الثلاثاء، 31 أغسطس 2010

الصحراء



29/06/2007

" فكم هي عارية وكم هي مخيفة هذه الصحراء.." ابراهيم الكوني- التبر( ص. 148 )..

الصحراء(1)..
هذا المكان الحميمي الرحب.. الواسع والممتد من الرمال والقيظ والغبار والعوسج والندا.. امتداد جغرافي ضارب في أعماق المدى.. وذاكرة منفتحة على تاريخ عريق يختزل أشكالا متنوعة من القيم والخبرات الإنسانية الموغلة في القدم.. (2)

" فكم هي عارية وكم هي مخيفة هذه الصحراء.."
ابراهيم الكوني- التبر( ص. 148 )..

الصحراء(1)..
هذا المكان الحميمي الرحب.. الواسع والممتد من الرمال والقيظ والغبار والعوسج والندا.. امتداد جغرافي ضارب في أعماق المدى.. وذاكرة منفتحة على تاريخ عريق يختزل أشكالا متنوعة من القيم والخبرات الإنسانية الموغلة في القدم.. (2)
في الصحراء.. يحلو السفر في المكان.. ولأجل المكان..
المكان في الصحراء له دلالته ومكانته الخاصة.. فهو لا يكتسب أهميته القصوى والضرورية.. ولا يحمل أي معنى، ولا يعبر عن أية دلالة إلا من خلال العلاقة التي يربطها الإنسان معه.. وما يدفع إلى هذا القول، هو ما يمكن للمرء أن يشاهده من تاريخ وحضارة وفعل إنساني ينطق من غير لسان شاكيا ظلم الإنسان وقساوة الزمن وتنكر الأيام في مجموعة من الأمكنة الصحراوية التي تجسد هوية إنسان الصحراء وترسم سعة مخياله وتحتفظ بنمط عيشه وتفكيره التقليدي (البدوي)..
الصحراء.. فضاء الرمال بامتياز..
والرمال من الكثبان الرملية والأكثبة والكثب، وهي تلال الرمل..
والكثيب من الرمل: القطعة تنقاد محدودبة، وانكثب الرمل بمعنى اجتمع. ويقال الكثيب الرمل. وفي التنزيل العزيز: "وكانت الجبال كثيبا مهيلا"، والمهيل الذي تحرك أسفله.
الصحراء.. فضاء الرمال بامتياز..
إلا أن ما يدعو إلى التأمل هو ظاهرة الزواحف الرملية والتحات الريحي اللذين يصعب إيقافهما، ذلك أن الكثبان الرملية تتقدم بفعل قوة ومشيئة الرياح، إذ تكفي كمية بسيطة من الرمال المحمولة عبر رياح متوسطة السرعة لتشكيل الكثبان (أو لغراد باللهجة الحسانية) التي تزحف وتتحرك بسهولة عندما تتراجع السهول..
من الناحية الجمالية، تبدو الصحراء/المكان في صورة فراغات مغرية ممتدة إلى ما لا نهاية.. وحجوم رملية مرئية متآلفة تتلاعب على سطوحها الظلال والأضواء بأهم درجاتهما اللونية.. تكاوين مبنية غالبيتها على التضاد (الكونتراست) الجمالي والإستتيقي القائم بين لون الرمال الذهبي وزرقة السماء المتبدلة على إيقاع التقلبات المناخية، فضلا عن أشعة الشمس الساطعة التي ترسم (غالبا) تشتيت الألوان وانتشارها على امتداد بصري واسع، وبذلك يتمدد النظر وتنشأ اللذة البصرية داخل وعبر تعاريج الرمال وأنثوية أجسادها المنحوتة على مداها الواسع والرحب. يقول الشاعر: (3)
كثبان رمال
أم أجساد عارية..
تتطهر في وهد الصحراء
وتحت الشمس؟
الصحراء/المكان.. نتاج جمال طبيعي.. وطبيعة جميلة ترسم ملامح الأشياء في حضورها وغيابها.. وتبرز بهاء الصحراء وفضاءها الأخاذ والجذاب بكل تأكيد..
والصحراء.. هي بلا شك فضاء جغرافي ضارب في أعماق المدى.. ومجال بيئي شاسع يحتضن الإنسان الصحراوي في رحلته الأبدية وسط هبوب الرياح..
الصحراء.. متاهات لا حدود لها.. أو هي فضاء سانح لتخضيب الحواس كما يقول أندريه جيد - André Gide.. كل شيء في الصحراء عبارة عن امتدادات متصلة.. ولعل ذلك ما يعكس شدة الميل نحو الحرية والانفلات عند الإنسان الصحراوي والذهنية غير المركبة التي تنظر إلى الكلي من دون حواجز.. (4)..
هناك، بالصحراء، حيث الذرعاوات وتلال الرمل الناعمة مثل الزبد ودبيب الأفاعي.. وحركة السحالي التي ترسم آثارها على الرمال التي سرعان ما تنمحي بفعل حركة الرياح..
هناك بالصحراء.. على رخاء الرياح تتهادى الإبل في خطواتها بكبرياء مستحق.. والشمس الحارقة ترسل أشعة العطش التي لا ترتوي..
والصحراء – من منظور الروائي الليبي ابراهيم الكوني- هي الأصل والانتماء والانبعاث والتجدد والاستمرار.. بل هي رمز الحرية والانعتاق من قيود التبر وحضارته.. هي الطهر والقداسة بعينها..
هي ذي الصحراء، بهدوئها وغضبها.. وصفائها وعتمتها، تبسط السكينة والهدوء والدعة والصمت.. وتحتضن بدو رحل يحملون معهم حكاياتهم وأساطيرهم أينما ذهبوا.. وهو ذا الإنسان الصحراوي/الحساني الذي لا يجد روحه إلا في الصحراء.. والذي تضيق به الروح كلما اتجه نحو المدينة..
وللصحراء - كما يعبر عن ذلك ذ.أمير عبد المنعم – مذاق خاص لا يعرفه إلا أهلها. فتبر الرمال الأصفر وزمرد السماء الأزرق عندما يتحدان عند خط الأفق لا يميز الناظر أيهما يغرق في لجة الآخر.. فالموج الرملي علم الإنسان كيف يبحر.. كيف يشعر.. كيف يفيض وفاء وحنينا.. وكيف يستخدم حواسه الكامنة في الاهتداء بالنجم..
في ليالي الصحراء الجميلة التي يضيئها نور القمر/الوجد الإلهي تسرد الحكايات الشعبية وتلقى قصائد الشعر الحساني فوق الرمال الدافئة.. تحكى ولا تكتب لأنها محفوظة في ذاكرة البدو..
هم هكذا الصحراويون في صحرائهم عفويون مندمجون في الزمن البدوي يعيشون داخل خيامهم على معاني الشرف والكرامة والشهامة التي يرسمها بقاؤهم في عالم الريح والرمل والمطر الشحيح.. والبحث المستمر عن الماء قوام العيش بالصحراء ومناط التوق الأزلي إلى الحياة..

هوامش وإحالات:
* النص مقتطف من مؤلف لنا يوجد تحت الطبع بعنوان: الثقافة..والهوية/ رؤية أنتروبولوجية حول المجتمع الحسّاني.
1- إن مصطلح الصحراء- Le désert، المأخوذ من القاموس المصري القديم، هو في الأصل "كلمة هيروغليفية مصرية تلفظ" تيزيرت"- Tesert، ومعناها المكان المتخلى عنه.. أو المكان المهجور. من هنا استمد الفعل اللاتيني "ديزيرو"- Désero أو يهجر، وقد أتت من هذا الفعل كلمة ديزيرتوم Desrtum، أي المكان المقفر. وكلمة ديزيرتوس-Desertus، أي المهجور، أو المتخلى عنه".
- يرجى نظر: أبحاث الفضاء وتنمية الصحراء
بقلم: د. فاروق الباز – مجلة الباحث العربي
العدد السادس –يناير/مارس 1986 (ص. 79)..
2- خلال الدورة 31 لليونسكو المنعقدة في شهر نونبر 2001، دعت هذه المنظمة الدولية في توصيتها إلى الاهتمام بالصحراء كتراث ثقافي وطبيعي. كما أن العديد من المنظمات الدولية والمؤسسات غير الحكومية دعت إلى الاهتمام بالصحراء كفضاء للتواصل والحوار (قمة Rio عام 1992) باعتبارها مجالا جغرافيا موحدا من قبل الميثاق الأخلاقي للمسافر، واحترام الصحراء، ومن أجل صحراء نظيفة..
3- مجلة فنون – عدد خاص/ تونس - غشت 1987 (ص. 119).
4- قراءة في رواية ابراهيم الكوني – التبر نموذجا
د. تيسير عبد الجبار الألوسي – مجلة علوم إنسانية / العدد السادس – فبراير 2004.


ابراهيم الحَـيْـسن
Tachkil65@yahoo.fr



اضف الى موقعك | طباعة | ارسال لصديق

اضف تعليقا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق