السبت، 17 يوليو 2010


أضواء على الأدب الموريتاني

كتبهاالمختار ولد محمد موسى ، في 26 يوليو 2007 الساعة: 19:28 م


فريد أمعضشو*

farid-88@hotmail.com

تمهيد

لا نبالغ إذا قلنا إن الكثرة الكثيرة منا لا تكاد تعرف شيئا عن الأدب الموريتاني؛ قديمه ومُحْدَثه، قصيده ونثره. ولعل هذا ما حدا أحد الباحثين على وسْم هذا الأدب بـ"الحلْقة المجهولة" في سلسلة الأدب العربي. والحق أن لبلاد شنقيط كياناً أدبياً قائماً يشترك مع عموم الأدب العربي في أمور عدة، بقدر ما يستميز منه بخصائصه الأثيلة التي هي نَتاج بيئته ومحيطه الشامل. ومحاولة منا لتقديم صورة – ولو تقريبية وعامة – عن الأدب الموريتاني ونقده، ارتأينا أن ندبّج هذه الورقات التي هي – في الواقع – قراءة واصفة لإحدى الدراسات الموريتانية المعاصرة القيمة التي نهضت بعبء التعريف بأدب الشناقطة قديمه وحديثه، عامّيه وفصيحه، إبداعه ونقده جميعا.

لقد اتجه اهتمام الدرس النقدي العربي ردْحا غير يسير من الزمن إلى آداب المركز (مصر والشام والعراق خاصة)، فتناولها تناولا شاملا، وكتب عنها دراسات وأبحاثا غزيرة ومتنوعة. على حين لم يلتفت إلى آداب الأطراف/ الهوامش إلا لماما وعرضا. ولذا كان نصيب الأقطار المغاربية عامة والقطر الموريتاني خاصة من ذلك الدرس ضئيلا جدا، وذلك لاعتبارات سياسية وجغرافية وثقافية. وهكذا، ظهرت بعض الأصوات في موريتانيا تنحو باللائمة على أدباء المشرق ونقاده وتعيب عليهم تغييبهم أدب موريتانيا وتهميشه وإقصاءه من اهتمامهم. والواجب أن قضية التعريف بالأدب الموريتاني يجب أن ينهض بها أبناء موريتانيا ودارسوها، ولا ينبغي لهم أن يركنوا إلى الراحة والخمول منتظرين قيام الآخرين بالتنقير في تراثهم الفكري والأدبي والتعريف به. وهذا الأمر ينسحب على سائر الأقطار المغاربية، وهكذا ألفينا مثلا الأستاذ عبد الجبار السحيمي يكتب في الأعوام السبعين مقالا في صحيفة (العلم) يتهم فيه النقد المشرقي بالنظرة الشوفينية الضيقة لتعامله مع أدب المشرق دون أدب المغرب.([1])

لا شك في أن ثمة جملة من المثبطات والصعوبات التي تقف في طريق الأدب الموريتاني، وتجعل الاقتراب منه، والتعرف إليه، وتكوين نظرة حقة عنه أمرا عسيرا. ومنها على سبيل المثال أن أغلب أدب موريتانيا ما يزال مخطوطا حبيس الرفوف في الخزائن الخاصة، والمكتبات العمومية، والخزانات التابعة للزوايا والتي يَضِنُّ القائمون عليها على القراء والمثقفين ولا يخرجون كنوزها للناس ولا يسمحون للدارسين بالاطلاع عليها وتحقيقها ونشرها. وإذا لم يبادر المتوفرون على هذه الكنوز بتحقيقها وطبعها وإذاعتها بين الناس، أو تمكين الجهات المختصة من ذلك، فإنهم سيتحملون جريمة اندثارها أمام الأجيال القابلة. بل يجب في مثل هذه الحال أن تتدخل السلطة السياسية لإرغام هؤلاء الذين يحتكرون هذه المخطوطات على تسليمها للدارسين المحققين، أو إغرائهم قصد بيعها للخزانات العمومية. لأن هذه المخطوطات إنما هي ملك للجميع، ولا يجوز الاستحواذ عليها وإخفاؤها. ثم إن من شأن تحقيق هذه الكنوز وطبعها ونشرها أن تؤدي إلى تغيير جملة من الأحكام التي أمست "مسلمات" في دنيا النقد العربي. يضاف إلى هذه الصعوبة صعوبات أخرى؛ منها أن كثيرا من الأدب الموريتاني قد تعرض إلى الإحراق والنهب على يد المستعمرين، وضاع حظ كبير منه نظرا لغياب الحفظ والصيانة وقلة التدوين. أضف إلى هذا الصعوبات القبلية، ونَدرة وسائل النشر…إلخ.

وبالرغم من هذه العراقيل جميعها، وبدافع من الغيرة والعزيمة الأكيدة على التعريف بأدب موريتانيا والبحث عن مكانة تليق به ضمن خارطة الأدب العربي، قام عديد من الدارسين الموريتانيين في العقود الأخيرة وشمروا عن سواعد الجد والاجتهاد والبحث تحدوهم الرغبة في تقديم صورة لائقة بأدب بلدهم، فظهرت – نتيجة لذلك- دراسات وأبحاث ومقالات قيمة تصب في هذا الإطار. وقد لاحظ الأستاذ أحمد ولد حبيب الله في مقدمة كتابه (تاريخ الأدب الموريتاني) أن التعامل مع الأدب الموريتاني أخذ منحيين اثنين، هما:

أ- منحى يعتبر الأدب الموريتاني كتلة من المفاهيم والأحداث والقيم التي ينبغي أن تظل محروسة أو أسرارا قبلية أو مقدسات لا يجوز نبشها وإذاعتها أو مجرد الاقتراب من حرمتها وحرمها، ويجب أن تبقى مستقلة عن الوجود أو الوعي الموريتاني المعاصر. و"هذا منحى موجود بالقوة على حد تعبير المناطقة"([2]).

ب – منحى يرى أنه يجب التعامل مع الأدب الموريتاني من منظور علمي بحث ومن منظور الوعي بالحاضر والإدراك للوجود الآني. وهذا المنحى هو الذي يجب أن يسير فيه البحث الجاد والرصين، وهو الذي ينبغي أن يسود المشهد الثقافي الموريتاني إذا أريد له الخروج من مآزقه. علاوة على هذا، فهو – كما يقول أحمد ولد حبيب الله – "المنحى الذي يخيل إلينا أنه هو الممكن علميا وعمليا."([3])

ولعل من أهم الدراسات التي شهدتها الساحة النقدية الموريتانية المعاصرة دراسة الأستاذ أحمد بن حبيب الله المعنونة "بتاريخ الأدب الموريتاني." وهي دراسة ضخمة الحجم، إذ تقع في حوالي ثلاث وثمانين وسبعمائة صفحة من القِطْع المتوسط، وقد صدرت في طبعتها الأولى عام 1996 بدمشق ضمن منشورات اتحاد كتاب العرب. وهي عبارة عن خلاصة جامعة للمجهودات التي بذلها الدارسون والباحثون الموريتانيون في سبيل تأريخ الأدب الموريتاني وتأصيله وتصنيفه. وهي الدراسة التي نعتزم في هذه الورقات المحدودات تقديم قراءة مركزة لها.

لقد استهل أحمد ولد حبيب الله دراسته بمقدمة طويلة بعض الشيء (من ص 5 إلى ص 17) خصها بالتعريف بأدب موريتانيا، وأومأ فيها إلى أهمية موضوع بحثه وصعوباته الجمة، واستعرض في ثناياها جهود الدارسين السابقين في هذا المضمار، وذكر مظانه الرئيسة المعتمدة في صوغ مواد بحثه وعناصره مُجْمِلا إياها في أربع دراسات رأى أنها تمثل – بحق – محاولات رائدة وجادة في مجال البحث في أصول الأدب الموريتاني وتطوره؛ ويتعلق الأمر بدراسات ولد أَبَّاهْ وابن احميدة وابن الحسن وابن عبد الحي. وعرض الباحث في هذه المقدمة كذلك المحاور البارزة لدراسته، ودعا الدارسين العرب بعامة والموريتانيين بخاصة إلى مزيد من الجُهد والجَهد وتنسيق أعمالهم بغية النهوض بالأدب الموريتاني ورد الاعتبار إليه بعد مدة طويلة من التهميش والتغييب… إلخ.

وبعد الخطاب المقدماتي، ينتقل الباحث إلى الحديث عن فصول كتابه الستة فصلا فصلا. وفيما يلي سنقف عند هذه الفصول كلها محاولين تقديم خلاصة مركزة لكل واحد منها على حدة، ومناقشة بعض القضايا البارزة فيها. ولتكن البداية بالفصل الأول:

الفصل الأول: الإطار العام للأدب الموريتاني
لقد تحدث الباحث في هذا الفصل – بإفاضة – عن الظروف التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية التي شكلت الإطار العام الذي نشأ في أحضانه الأدب الموريتاني وتطور انطلاقا منه.

فمن الناحية التاريخية، تكلم الباحث عن موريتانيا قبل دخول الإسلام إليها حين كانت إيالة خاضعة للرومان، وعنها في ظل رحمة الإسلام، وعن وقوعها تحت نير الاستعمار الغاشم، وأخيرا عن استقلالها وظهورها باعتبارها كيانا سياسيا مستقلا منذ 1960م.

اختلف المؤرخون في تحديد تاريخ دخول الملة الإسلامية إلى موريتانيا؛ فذهب بعضهم إلى أنها دخلت المنطقة في عهد الفاتح عقبة بن نافع الفهري (ق 1ﻫ)، وذهب آخرون إلى أن ذلك وقع بعد عهد عقبة، وقال بعض المؤرخين إن الإسلام ولج موريتانيا في زمن المرابطين الملثمين الذين تمكنوا – بفعل جهادهم المتواصل ورباطهم الصادق – من تكوين إمبراطورية مترامية الأطراف تمتد على مساحة شاسعة في شمال أفريقيا وغربها والأندلس. وقد دخلت اللغة العربية موريتانيا مع دخول الإسلام إليها باعتبارها الوعاء الحامل لهذا الدين الحنيف. فتعربت المنطقة تعربا شاملا كما يصرح بذلك أحمد ولد حبيب الله، ورحب العلماء الموريتانيون وغيرهم بلغة العرب، وأقبلوا عليها تعلما وتعليما، وأولوها عناية كبيرة، بل إن العلامة محمد فال بن مُتَالِي آثر تعلم اللغة العربية على التفرغ للنوافل. وفي ارتباط مع هذا الموضوع، وقف الباحث عند تاريخ دخول الصوفية إلى موريتانيا وظروفه، مشيرا إلى أن ذلك تم ابتداء من القرن 11ﻫ، وكان على طريقة الجُنَيْد، فظهرت زوايا عدة مارست سلطة روحية بالغة، ودخلت في حروب فيما بينها أو بينها وبين القبائل. والحق أن تحديد تاريخ دخول الإسلام أو العربية أو التصوف إلى بلاد شنقيط (موريتانيا) أمر صعب جدا؛ لأن أقوال المؤرخين والباحثين في هذا الصدد تضاربت وتباينت، ولأن كثيرا من التراث الفكري والأدبي الموريتاني قد تعرض إلى الضياع والتلف أو ما يزال مخطوطا حبيس رفوف الخزانات الخصوصية والقبلية والعمومية. والراجح أن الدين الإسلامي واللسان العربي قد دخلا المنطقة في القرون الإسلامية الأولى بوسيلتين رئيستين، هما: التجارة والدعوة السلمية. ويتأكد لنا هذا الأمر خصوصا إذا علمنا أن موريتانيا كانت تابعة لسلطان المغرب الأقصى وأنها جزءا في كيان منطقة الغرب الإسلامي التي وصلتها الدعوة الإسلامية في القرن الهجري الأول على يد الفاتحين الأُوَّل.

لقد دخلت موريتانيا خلال الفترة الممتدة ما بين ق 6 وق 14ﻫ ما يسمى (عهد الإمارات)، حيث كانت موزعة بين عدد من الإمارات والقبائل في ظل غياب حكم مركزي. ويحكي لنا التاريخ كثيرا من الحروب والمعارك المبيرة التي كانت تنشب بين هذه الإمارات من جهة، وبينها وبين الزوايا من جهة أخرى، ولعل من أشد هذه الحروب ضراوة وفتكا الحرب المعروفة "بحرب شُرْبُبَّه" التي انتهت سنة 1678م. ومن أقوى هذه الإمارات بنو حسان ذوو السلطان السياسي والعسكري. والحسانيون إمارات عدة، أبرزها: إمارة أولاد امبارك التي تأسست في ق 9ﻫ بزعامة أوديكه الأقرع، وإمارة النزارزة التي أسسها هدي بن أحمد بن دمان سنة 1040 للهجرة، وإمارة آدرار في أطار التي تأسست عام 1158ﻫ على يد عثمان ولد لفظيل.

ومن الناحية الاجتماعية، يؤكد أحمد ولد حبيب الله أن المجتمع الموريتاني "تركيبة اجتماعية لا عرقية"، إذ يتشكل من زخم من القبائل والزوايا التي تقاسمت السلطة الزمنية والروحية في موريتانيا التي عانت مرة طويلة انعكاسات غياب السلطة المركزية الرادعة.

وفي الجانب الثقافي والأدبي، استرسل الباحث في الحديث عن المراكز العلمية التي كانت منتشرة في موريتانيا، أمثال: شنقيط التي أسست في القرن الهجري السابع، وولاته، وأوداغست، ووادان… إلخ. وقد كان لها أثر جلي في نشر الثقافة والمعارف التي شهدت ازدهارا ملحوظا في القرون 12 و13 و14 للهجرة. وإذا كان دارسو الأدب العربي يتحدثون عما أسموه (عصر الانحطاط) باعتباره عصر جمود فكري وركود مس الأدب العربي في ظل خضوع جل أمصار الأمة العربية للنفوذ التركي، فإن أدب موريتانيا كان يعيش نهضة ثقافية وأدبية بارزة الصُّوى في هذه المرحلة، وهذا بشهادة عديد من الباحثين. يقول أحمد ولد حبيب الله: "في الوقت الذي كان فيه الأدب العربي يمر بمرحلة ضَعف وجمود في ظل خضوع معظم الوطن العربي للحكم العثماني… كانت بلاد شنقيط أو موريتانيا تشهد نهضة أدبية وثقافية وفي مختلف العلوم العربية والإسلامية، تجلت في كثرة الشعراء والمؤلفات".([4]) ويقول محمد طه الحاجري (ت 1988م): "… على أن الصورة الأدبية التي نراها لشنقيط في هذين القرنين (18-19م) جديرة أن تعدل الحكم الذي اتفق مؤرخو الأدب على إطلاقه على الأدب العربي عامة في هذه الفترة، فهو عندهم – وكما تقتضي آثاره التي بين أيديهم – أدب يمثل الضعف والركاكة والفُسُولة في صياغته وصوره ومعانيه. فهذه الصورة تمثل لنا الأدب الشنقيطي في وضع مختلف يأبى هذا الحكم أشتد الإباء. فهو – في جملته – أدب جزل بعيد عن التهافت والفسولة"([5]).

هذه صورة عامة ومقتضبة عن الإطار العام للأدب الموريتاني الذي يشترك من وجهة مع الأدب العربي عامة في جملة من الأمور لأنه جزء لا يتجزأ من صرحه. ومن وجهة أخرى، فهو سيتميز بجملة من الخصوصيات التي هي نتاج طبيعي لمجموعة من الظروف والعوامل.

الفصل الثاني: مصادر الأدب الموريتاني وقيمتها التاريخية والعلمية.
لا نبالغ إذا قلنا إن أزيد من 90% من التراث الفكري والأدبي لموريتانيا ما يزال محجوبا عنا، وذلك لاعتبارات عديدة. فكثير منه قد ضاع في الحروب الداخلية المتعددة، ونصيب مهم منه قد تعرض إلى النهب والإحراق من قبل المستعمر الفرنسي، وما هو مخطوط من هذا التراث كثير جدا. ومن العوامل المباشرة التي أسهمت في ضياع كثير من أدب موريتانيا كون الموريتانيين يعتمدون اعتمادا كبيرا، في حفظ تراثهم وصيانته، الذاكرةَ والرواية الشفوية. يقول الشاعر: (البسيط التام)

عليك بالحفظ دون العلم في كتب فإن للكتب آفات تفرقها

اللص يسرقها والفأر يخر مها([6]) والنار تحرقها والماء يغرقها
ويقول أحمد ولد حبيب الله: "على أن الشيء المؤكد هو أن دور الكتابة أو التدوين في المحافظة على التراث الموريتاني ليس دورا رئيسيا، لأن حاجة القوم عامة إلى التدوين والكتابة كانت قليلة إذا ما قورنت بنزعة الحفظ السائدة. وبناء على ذلك، يمكننا أن نتخيل ضياع الكثير من التراث الموريتاني، خاصة ذلك الموغل في القدم. وقد يكون نصيب الشعر من الضياع والاندثار كبيرا، لأنه –من ناحية – كان يخلد تقاليد وصراعات قبلية ومثالب اجتماعية يتورع عن حفظها وعن تدوينها الشعراء إذا كان هجاء فاحشا أو فيه مس بمكانة القبيلة أو الشيخ الصوفي، ولأنه – من ناحية أخرى – كان ذا قيمة سامقة في الثقافة الموريتانية".([7])

أطلقت مجلة (العربي) الكويتية عام 1967 على موريتانيا (أو بلاد شنقيط) مقولة "بلد المليون شاعر". فأين هذا الشعر، وهذا الأدب بعامة؟ قد يجاب بأن معظمه قد ضاع. ولكن الثابت أن منه ما نجا من براثن الضياع؛ وهنا نتساءل: أين يمكن أن نقرأ هذا النصيب الذي وصل إلينا من الميراث الأدبي الموريتاني؟

لقد بذلت موريتانيا بعد حصولها على الاستقلال السياسي بعض المجهودات الرامية إلى تجميع مخطوطات تراثها الفكري والأدبي وتحقيقها ونشرها بغية التعريف بأدبها الذي طالما عانى التهميش والإقصاء. وقد أنشأت لهذا الغرض بعض المؤسسات والمراكز العلمية. وهكذا، ففي سنة 1974 تم إنشاء "المعهد الموريتاني للبحث العلمي". ولكنه ظل مشلولا عن القيام بمهامه العلمية لأساب مادية وإدارية وعلمية، منها:

· ضعف الإمكانات المادية المتاحة لاقتناء المخطوطات وصيانتها.

· انعدام الخبراء في مجال تجميع المخطوطات وحفظها وترميمها وتصنيفها وتحقيقها.

· طبيعة العقلية الموريتانية التي تأبى التنازل عما لديها من مخطوطات بالبيع أو بالإهداء. وتعدها من جملة المقدسات والأسرار التي لا ينبغي للغريب الاطلاع عليها أو تشويهها.

· انعدام الوعي العلمي والحضاري والتجاري بقيمة المخطوط وإحيائه ونشره.

ورغم هذا كله، فقد استطاع هذا المعهد أن يحقق بعض المخطوطات، وأن ينشر بعض الكتب والأبحاث، وأن يصدر مجلة دورية أسماها (الوسيط). كما تمكن المعهد من جمع أزيد من 6000 كتاب مخطوط، وحوالي 2500 ميكرو فيلما، وما يربو عن 600 ملف للشعراء.

إن المصادر والمراجع التي تتناول الأدب الموريتاني قليلة، ولا تقدم – في مجملها- أشياء كثيرة عن أدب موريتانيا شعرا أو نظما أو نثرا. فمن هذه المظانّ كتاب (نيل الابتهاج بتطريز الديباج) لأحمد بابا التمبكتي السوداني الذي حوى شذرات يسيرة عن ذلك الأدب. وهناك بعض المصادر المعروفة على صعيد الأدب العربي أوردت إشارات عن تاريخ موريتانيا الأدبي والثقافي والحضاري. يقول الباحث الموريتاني يحيى ولد محمدن: " فلولا آثار البكري وابن عِذاري المراكشي وابن الأثير والسيوطي وابن خلدون والكعتي والسعدي والسلاوي وعبد الله عنان لما عثرنا على هذه الأشلاء من تاريخنا السياسي والثقافي والحضاري…" أما المراجع التي يمكن أن نقرأ بين دفاتها أدب شنقيط، فإنها تتفاوت في قيمتها العلمية، وتتفاضل في المنهاج ووفرة المادة والأخبار والقدم والقرب من المنابع الأصلية. وقد حاول الباحث أحمد ولد حبيب الله أن يصنف هذه المراجع إلى أنواع، منها:

-أ- مراجع وطنية عامة: أي الكتب التي ألفها باحثون موريتانيون عن أدب بلدهم العام. ومن هذه الكتابات المطبوعة والمتداولة بين الناس نذكر:

· كتاب (فتح الشكور في معرفة أعيان علماء التكرور([8])) لابن بنان البرتلي: وقد حققه وقدم له الأستاذان محمد إبراهيم الكتاني ومحمد حجي (ت 2003م)، وطبع عام 1981 في بيروت. ويعد أقدم كتب التراجم والسير الموريتانية التي وصلت إلينا، وقد تعرض – بالترجمة والتعريف – إلى مائتي (200) شاعر ومؤلف من القرنين 11 و12 للهجرة.

· كتاب (الوسيط في تراجم أدباء شنقيط) لأحمد بن الأمين الشنقيطي المتوفى بالقاهرة سنة 1913م. وقد طبع هذا الكتاب أربع طبعات؛ الأولى عام 1911، والثانية عام 1958، والثالثة عام 1961، والرابعة عام 1989 (بعناية فؤاد سيد، أمين المخطوطات بدار الكتب المصرية). وترجم الأستاذ مراد تفاحي أجزاء منه إلى الفرنسية. ويضم الوسيط 82 ترجمة لأدباء شناقطة من القرنين 12 و13 هـ. ومما يلفت النظر في هذا الكتاب أن صاحبه قد اعتمد بدرجة كبيرة – صياغة فقرات كتابه وترجماته – ذاكرتَه وحافظتَه.

· كتاب (الشعر والشعراء في موريتانيا) للدكتور محمد المختار ولد أباه: وقد ضمنه حوالي 6000 بيتا من الشعر، وأصدره في تونس عام 1987م. وأوضح في مقدمته منهج تأليفه، وأنه أثبت فيه هذا القدر من الشعر لأكثر من مائة (100) شاعر ينشر لأول مرة ولم يرد منه شيء في وسيط الشنقيطي اتقاء التكرار. كما أورد شعرا لبعض شعراء الوسيط لم يكن معروفا. وحاول أن ينتقي اختياراته الشعرية من مختلف الجهات والقبائل الموريتانية.

-ب- مراجع مرقونة: ويقصد بها الباحث الدراسات والبحوث العلمية والدواوين التي يتم تحقيقها في إطار أعمال ذات طابع أكاديمي سواء داخل موريتانيا أم خارجها. ومن ذلك نذكر ما يلي:

· (نشأة الشعر الفصيح في بلاد شنقيط): هذه الدراسة –في الأصل- رسالة جامعية تقدم بها الأستاذ عبد الله حسن بن احميدة لنيل درجة الماجستير، وقد نوقشت في جامعة القاهرة عام 1986. وتقع في 245 صفحة من الحجم الكبير. وتتكون من مقدمة وخمسة فصول وخاتمة.

· (الشعر الشنقيطي في القرن 13 هـ): هذه الدراسة أعدها الأستاذ أحمد جمال بن الحسن لنيل دكتوراه الدولة في الآداب من جامعة تونس عام 1987. وفيها حوالي ألف (1000) صفحة موزعة بين ثلاثة مجلدات. وقد ترجم فيها صاحبها لثلاثة عشر شاعرا بارزا في القرن الهجري الثالث عشر.

· (التجديد في الأدب العربي بموريتانيا في العصر الحديث): هذه الدراسة رائدة في بابها باعتراف عدد من الباحثين. وهي –في الأصل – أطروحة جامعية تقدم بها الأستاذ محمد ولد عبد الحي لنيل د.د.ع من الجامعة التونسية عام 1989. وتقع في 292 صفحة من القطع الكبير.وتتألف بنيتها من مقدمة وخاتمة وستة فصول.

· ديوان امحمد بن الطلبه: وقد حققه الأستاذ أحمد جمال بن الحسن في إطار أطروحة جامعية ناقشها بتونس عام 1980. وفي هذا الديوان حوالي أربعة أبيات وألف بيت.

· ديوان محمد اليدالي: وقد جمعه وحققه وقدم له الباحث ولد أكاه، ونال به درجة علمية سنة 1980 من المدرسة العليا للأساتذة بموريتانيا.

· ديوان محمد ولد ابْنُ ولد احميدة: وقد جمعه وحققه ووضع حواشيه الأستاذ أحمد ولد حبيب الله، وذلك في إطار عمل جامعي نوقش بجامعة القاهرة عام 1988م.

- جـ - مراجع مغربية: تتحدث بعض المراجع المغربية عن أدب الصحراء أو موريتانيا وبعض أعلامه. ومن هذه المراجع التي ذكرها أحمد ولد حبيب الله نجد:

· ( المعسول) لمحمد المختار السوسي (ت 1383هـ): وهو يقع في عشرين (20) مجلدا.

· (خلال جزولة) للمختار السوسي كذلك: وفيه أربعة أجزاء.

· (الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام) لعباس بن إبراهيم المراكشي: وفيه عشرة أجزاء.

· (ثقافة الصحراء) للدكتور عباس الجراري… إلخ

- د- مراجع أجنبية: وهي كثيرة وخاصة باللغة الفرنسية والإنجليزية وكذا الإسبانية. وقد تعين على دراسة السياق العام للأدب الموريتاني، وتقف في بعض الأحايين عند بعض الأعلام الشناقطة. ومنها:

· كتاب (مستعمرة آدرار) « Colonie de l’Adrar» للعقيد غورو (Gouraud).

· كتاب (صحراء خصبة) "Désert Fertile : un nouveau Etat, La Mauritanie" للباحثة الفرنسية كريستين غارنييه (Christine Garnier)، وقد صدر في فرنسا سنة 1960م.

-هـ- ما كتبه الرحالة والمؤرخون العرب القدامى والمحدثون الذين زاروا موريتانيا، ودونوا لنا مجموعة من الأخبار والمعلومات عن أوداغست وولاته وشنقيط وآدرار. ومن هؤلاء ابن حوقل (ق 4 ﻫ) صاحب كتاب (صورة الأرض)، وأبو عبيد البكري (ق5 هـ) صاحب (المسالك والممالك)، وابن بطوطة (ق 8 هـ) صاحب الرحلة الشهيرة. ومن المؤرخين المعاصرين العرب الذين كتبوا عن موريتانيا يونس بحري الذي ألف كتابا بعنوان (هذه جمهورية موريتانيا الإسلامية)، وقد صدر في طبعته الأولى عام 1961م عن دار الحياة البيروتية. وكذلك أنور زغلول الذي كتب بالاشتراك مع شوقي الكيال دراسة بعنوان (موريتانيا عربية)، وقد صدرت بالقاهرة عام 1960.

-و- المقالات والاستطلاعات: وهي كثيرة، منها ما كتبه موريتانيون، ومنها ما أنجزه دارسون عرب غير موريتانيين. ولعل من أهم هذه المقالات مقال الباحث المصري طه الحاجري الذي صدر ضمن العدد 107 من مجلة (العربي) في أكتوبر 1967، وعنوانه (شنقيط أو موريتانيا: حلْقة مجهولة في تاريخ الأدب العربي).

تلكم هي بعض المظانّ والكتابات التي يمكن أن نقرأ فيها الأدب الموريتاني قديمه وحديثه. وهي قليلة، لأن الإنسان الموريتاني – رغم معرفته بالكتابة على نحو ما – كان يُؤْثر الحفظ والرواية على التدوين. مما أدى إلى ضياع شيء غير قليل من تراثه الشعري والنثري، وخاصة ذلك الضارب بأواخيه في أعماق الماضي. ويتفف الباحثون على أن ما وصل إلينا من الأدب الموريتاني وما هو متداول بين الناس إنما هو قُلٌّ من كُثْر، أو غيض من فيض.

ولا شك في أن للمصادر والمراجع المذكورة قيمة تاريخية وأخرى علمية واضحتين. ذلك بأنها قد حفظت لنا أشياء عن تاريخ موريتانيا وأدبها من جهة، ومن جهة أخراة فإنها قد تضمنت صنوفا من المعارف والعلوم.

الفصل الثالث: نشأة الأدب الموريتاني وفنونه.
بالنظر إلى التداخل الكبير بين هذا الفصل وبين الفصل الذي يليه، فقد رأينا أن نتناولهما معا في فصل واحد سميناه "نشأة الأدب الموريتاني وفنونه". وسنقسم هذا الفصل – تبعا لقسيمي الأدب المعروفين – إلى محورين اثنين كالتالي:

-1- نشأة النثر الموريتاني وفنونه.

-2- نشأة الشعر الموريتاني وفنونه: وسنفرع هذا المحور إلى مبحثين؛ نتناول في أولهما نشأة الشعر الحساني وفنونه، على أن نتعرض في المبحث الثاني إلى نشأة الشعر الفصيح في موريتانيا وموضوعاته.

وقبل مباشرة الحديث في هذا الاتجاه، نشير إلى أن البحث في نشأة الأدب الموريتاني يعد من أكثر الإشكالات المطروحة في الساحة النقدية الموريتانية المعاصرة وأعوصها؛ لأن هذه النشأة ما تزال غامضة، ومثار جدل بين الدارسين. يقول أحمد ولد حبيب الله في مقدمة كتابه (تاريخ الأدب الموريتاني): "إن أكبر المشكلات التي تؤرق الحياة الأدبية الموريتانية المعاصرة تعود إلى جهل البدايات بسبب الإهمال والضياع وغياب التدوين والدراسات الجادة ".([9]) ولتكوين صورة – ولو تقريبية- عن هذه النشأة، يلزم تكثيف الجهود وتنسيقها والتعاون بين الباحثين وعدم الاقتصار على الجهود الفردية.

المحور الأول: نشأة النثر الموريتاني وفنونه

من الإشكالات العويصة التي آثر الباحث أن يقف عندها في هذا المجال إشكالية: أيهما أسبق في الثقافة الموريتانية النثر أم الشعر ؟

والحق أن هذه الإشكالية عامة، وقد أثير حولها نقاش كثير في الأدب العالمي كافة؛ ومنه الأدب العربي الذي ناقش نقاده الأُوَّل هذه القضية، وتوصلوا إلى نتائج متضاربة؛ فمنهم من قال بأسبقية النثر على الشعر، ومنهم من قال بالعكس. ونجد هذه القضية كذلك في النقد المغربي الحديث؛ فقد كتب عبد الله العمراني في منتصف القرن المنصرم مقالا في صحيفة (الأنوار) عنوانه (النثر أسبق وجودا من الشعر) وذلك في ثلاث حلقات (عدد 19/1950 + عدد 20/ 1950 + عدد 23 / 1951)، وكتب – في الرد عليه – المرحوم محمد بن تاويت مقالا بعنوان (الشعر أسبق وجودا من النثر) في حلقة واحدة في الصحيفة نفسها (عدد 21 / 1951). وليس الأدب الموريتاني بدعا من هذا الأمر، إذ تطرق نقاده إلى الخوض في غمار هذه القضية، وانقسموا إلى فريقين؛ أحدهما يقول بأسبقية النثر، والآخر بأسبقية الشعر. ولكل منهما حججه وبراهينه التي يستند إليها في إثبات زعمه ودحض زعم غيره.

يقول أحمد ولد حبيب الله: "وإذا كان أول نص نثري مكتوب وصلنا هو ذلك النص الذي كتبه محمد بن محمد بن علي اللمتوني في شوال عام 898 هـ وبعثه إلى السيوطي، وإذا كان أقدم نص شعري وصلنا يعود إلى القرن 7 هـ وينتسب إلى محمد قلّي. فليس معنى ذلك أن الشعر سابق على النثر، بل من المعقول – عقلا ونقلا – أن النثر سابق على الشعر. إلا أن النثر الفني الذي وصلنا يعود إلى القرن 11 هـ. ومع ذلك تبقى نشأة النثر العلمي والتأليفي مثار جدل بين من كتبوا عن التراث الموريتاني – حسب علمنا –" ([10]). فإذا كان ما وصل إلينا من نصوص موريتانية قديمة يثبت – بما لا يدع مجالا للشك – سبق الشعر على النثر الأدبي الموريتاني، فإن الباحث يرى خلاف ذلك، إذ يميل – كما يبدو – إلى القول بأسبقية النثر على الشعر في الثقافة الموريتانية، وخاصة النثر العلمي والتأليفي؛ هذا النثر الذي نشأ – حسب صاحب (الوسيط) - على يد الطالب محمد بن الأعمش العلوي الذي يعد أول من ألف من الموريتانيين في تصنيف النوازل، وكل من ألف فيها بعده ينقل عنه. ويقول الباحث نفسه في موضع آخر: "ولا يستطيع أحد أن يفصل في مشكلة سبق الشعر أو النثر الأدبي في الظهور في تاريخ البشرية".([11]) والذي يقرأ هذا القول، ويقارنه بالقول السابق، يمكن أن يلمس تناقضا في كلام الباحث أحمد ولد حبيب الله؛ فهو في النص الثاني يعترف –صراحة- بصعوبة – بل وباستحالة – الحسم في قضية أسبقية الشعر أو النثر في كل الآداب، في حين نجده في النص الأول ينحاز إلى أولئك الدارسين القائلين بسبق النثر على الشعر !

ويقول الأستاذ الخليل النحوي: "لنبدأ ملاحظة بسيطة، هي أن الشعر – وكما هو معترف به ومتعارف عليه – قد سبق النثر. وكما كان الأمر بالنسبة للمجتمعات البدائية، فقد كانت العناية بالشعر وبالتأليف نظما من أبرز ما امتاز به عالم القلم الموريتاني". نفهم من هذا القول أمرين؛ أولهما أن الخليل النحوي من المرجح أن يكون من المنافحين عن أطروحة سبق الشعر على النثر في الآداب الإنسانية عامة ومنها أدب شنقيط، وثانيهما قلة العناية بالنثر في الثقافة الموريتانية، وذلك راجع إلى عدة أسباب منها: الاهتمام الكبير للإنسان الموريتاني بالشعر باعتباره الفن الأثير لديه، وطبيعة البيئة الموريتانية البدوية المتأبية على التحضر… إلخ.

وتحدث أحمد ولد حبيب الله في هذا الصدد كذلك عن الفرق بين النثر والشعر، وعن وظيفة النثر التي تختلف باختلاف مقصديات النثراء، عن ضياع عدد وفير من النثر الموريتاني القديم مقارنة بالشعر، وغير ذلك من الأمور والمسائل.

يتوزع النثر الموريتاني بين عدة أجناس أو فنون، عرضها الباحث على النحو التالي: الوثائق العهود- الإجازات العلمية والصوفية – الفتاوى والنوازل – الأحاجي والألغاز – الأمثال والحكم الحسانية – الحكايات الشعبية بمختلف ألوانها – النصائح والمواعظ – المساجلات والمباريات النثرية – المناظرات – مقدمات الكتب – المسلمات أو التسليمات([12]) – الرسائل بشتى ضروبها – الرحلات- المقامات – الأقفاف([13]) – التراجم والسير – المقالات بأنواعها – القصة القصيرة – الرواية – المسرح. وقد وقف الباحث عند كل فن من هذه الفنون معرفا ومبينا أنواعه وضاربا الأمثلة دون شرحها أو مناقشتها.

المحور الثاني: نشأة الشعر الموريتاني وفنونه

المبحث الأول: نشأة الشعر الحساني وفنونه

تحدث الباحث في هذا المضمار عن اللهجة الحسانية بوصفها البوثقة الحاملة للشعر الحساني، وعن عروض الشعر الحساني المتميز واصطلاحاته الفنية الدقيقة، وعن صلة هذا الشعر بالموسيقى… إلخ. وعرض كذلك بعض الآراء التي قيلت في نشأة الشعر الحساني / العامّي الذي يطلق عليه عادة اسم (لَغْنَا)؛ أي الغناء لعلاقته الوثيقة بالموسيقى.

لقد حاول غير واحد من الدارسين الموريتانيين البحث في أصول الشعر الحساني ونشأته وتطوره… فهذا محمدن ولد سيدي إبراهيم لم يتوصل – في اجتهاده وبحثه – إلى تحديد تاريخ نشأة الشعر الحساني في موريتانيا، ولا إلى معرفة متى دخل إليها بالضبط. ولكنه يرى أنه مر بثلاث مراحل قبل أن يصل إلى الشكل الذي أصبح عليه اليوم، وهي:

· مرحلة (الكاف): أي القافية، وفيها كان الشعر الحساني أقرب إلى الشعر الفصيح.

· مرحلة (الطلعة) أو القصيدة.

· مرحلة (أَتْهَيْدِين) أو الملحمة.

ويقول الدكتور محمد المختار ولد أباه في كتابه (الشعر والشعراء في موريتانيا) إن أقدم صنف من أصناف الشعر الحساني موجود في ذلك الفن الذي يسمى (أتهيدين)، دون أن يحدد بداية نشأة هذا الشعر بداية دقيقة ولا كيف كان إبان دخول بني حسان إلى موريتانيا، وإن كان الباحث نفسه قد أومأ إلى أن الأزجال الشعبية قد دخلت صحراء صناهجة الجنوب مع دخول عرب بني معقل إليها… وهذا قد يكون – في نظر أحمد ولد حبيب الله – أقرب إلى الحقيقة التاريخية، لأن هؤلاء العرب دخلوا المنطقة في القرن الهجري السابع. ويذهب الشيخ ولد مكي إلى أن أول نص حساني وصل إلينا يعود إلى القرن التاسع للهجرة. وهناك من يرى أن أقدم نص حساني ينسب إلى الشيخ سيدي أحمد البكاي الكنتي (ت 934 هـ).

ولعل أشهر المهتمين بالشعر الحساني وأكثرهم اعتناء بالبحث في أصوله وصلته بالموسيقى وتطوره الأستاذ محمد ولد أحظانا الذي نشر في هذا الصدد اثنتي عشرة حلقة طويلة في صحيفة (الشعب) اليومية الرسمية عام 1993. وهو يرى أن نشأة الشعر الحساني قد مرت بثلاث مراحل، هي:

· مرحلة الأدب الشعبي الحساني قبل الالتحام بالموسيقى: وهي – كما يقول أحمد ولد حبيب الله – أقرب إلى الأزجال التي وجدت عند الهلاليين أو الشعر الشعبي أوهو هي. وتنتهي هذه المرحلة بما بعد دخول بني حسان إلى الصحراء الموريتانية وتمثلهم طبيعة حياتها لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل النشأة، ويتعلق الأمر بـ:

· مرحلة الالتحام بالموسيقى: وهي تبدأ – نظريا – بالمثاقفة بين القبائل الحسانية والقبائل الخليطة (أو الهجينة ) التي سبقتها.

· المرحلة الأخيرة: وفيها خرج شعر الحسانيين في شكل جديد بعد تزاوجه الطويل مع الموسيقى. وفيها أصبح الشعر الشعبي ظاهرة اجتماعية بارزة ومنتشرة على نطاق واسع.

وبالرغم من هذا كله، فإن مسألة تحديد أولية أو نشأة الشعر الحساني تظل من أعوص الإشكاليات وأكثرها إثارة للجدل والنقاش والاختلاف. ويستوجب الاقتراب منها بذل مزيد من المجهود، والتعاون المثمر بين الباحثين والنقاد.

ومن أهم فنون الشعر الحساني وموضوعاته نذكر: أتهيدين([14])– المديح – النسيب – البكاء على الأطلال – الغزل – الفخر – الرثاء – الهجاء – النقائـض- المساجلات (لَكْطَاعْ) – الوصف – الحكمة – النصائح والإرشاد – الاعتبار بالأيام – التبراع ([15]) – الشعر السياسي – الشعر التعليمي. وقد تعامل الباحث مع هذه الفنون جميعها بمنهاج يقوم على التعريف بها أولا، ثم رصد أنواعها إن وجدت، وأخيرا التمثيل لها بما لديه من نماذج وشواهد دونما التفات إلى شرحها أو تحليلها.

المبحث الثاني: نشأة الشعر الفصيح وفنونه

يقول الشاعر والروائي والناقد الموريتاني المعاصر أحمد ولد عبد القادر في مقابلة أجريت معه – ونشرت في صحيفة (الشعب ) عام 1990 بعنوان (مسيرة الشعر الموريتاني إلى أين ؟) -: "إن نشأة الشعر الموريتاني لا زالت يكتنفها الغموض، ولا يزال السؤال مطروحا: متى ظهر في موريتانيا الشعر العربي الفصيح؟"، وإن أغلب الدارسين قد ردوا هذه النشأة إلى أواخر القرن 11 هـ وبدايات القرن 12 هـ مع عبد الله بن رازكه (ت 1144 هـ) وجيله. فهذه النشأة – إذاً – غير واضحة، وتطرح نفسها في الساحة النقدية الموريتانية باعتبارها إشكالية عويصة، أثير حولها نقاش حاد في القديم كما في الحديث. وفيما يلي نعرض بعض الآراء التي تصب في هذا المجال:

لقد كتب الأستاذ عبد الله حسن بن احميدة دراسة رائدة في هذا الاتجاه أسماها (نشأة الشعر الفصيح في بلاد شنقيط)، وأكد فيها أن هذه النشأة تعود إلى القرن 5 هـ؛ أي إلى العصر المرابطي، ومن أوائل الشعراء الذين يأتي بهم الإمام الحضرمي. وقد سجل الباحث أن شعر النشأة – في مجمله – كان ذا صبغة دينية تعليمية، وأن أكثر الشعراء كانوا فقهاء أو علماء. ويرى عدد من الباحثين أن أدب عصر المرابطين قد غلب عليه التيار الفقهي الذي كان حائلا دون انتشار الشعر وازدهاره في عديد من المناطق الصحراوية. يقول الدكتور جمال أحمد بن الحسن في دراسته الموسومة (بالشعر الشنقيطي في القرن 13 هـ): "… ورغم ظهور الشعر "المقبول" عند الفقهاء في جميع مناطق بلاد شنقيط – تقريبا – فإن هذا الحاجز الفقهي قد حال دون ازدهاره في مراكز متعددة كانت مؤهلة للإسهام فيه بحظ وفير. وهذه حالة مدينة وَلاَّتَهْ على سبيل المثال. وقد ظهر فيها شعر التوسل والمدائح منذ القرن 11ﻫ/ 17م على أدنى تقرير" (ص 126 +127+128).

ويرى الدكتور محمد المختار ولد أباه في كتابه (الشعر والشعراء في موريتانيا) أن الشعر الموريتاني الفصيح قد ظهر – بحق – مع سيدي عبد الله بن رازكه. وفي الاتجاه نفسه، يقول الأستاذ أحمد سالم ولد محمدُ في دراسته التي عنوانها (شعر محمد حامد بن آلاَّ: جمع وتحقيق وتقديم)([16]): "فما قبل ابن رازكه (ت 1144ﻫ) ومحمد اليدالي (ت 1166ﻫ) والمصطفي بن أبي محمد (ت ق 12ﻫ) وأضرابهم في تاريخ الشعر الموريتاني غامض. وتدل معلوماتنا القليلة عن تلك المرحلة على قلة الإنتاج الشعري والافتقار إلى ثراء المضمون وإحكام الصياغة" (ص21). فهذا الرأي هو السائد والأكثر ذيوعا داخل موريتانيا وخارجها. إذ يحدد البداية الفعلية للشعر الفصيح في موريتانيا في النصف الثاني من القرن 11ﻫ ومطلع القرن 12ﻫ. وهو لا ينفي وجود شعر قبل هذه الفترة نفيا تاما، بل يرى أنه موجود ولكنه ضئيل وفقير ويغلب عليه النفَس الفقهي والتعليمي.

ويقسم الناقد الموريتاني المعاصر محمد ولد عبد الحي في كتابه القيم (التجديد في الأدب العربي بموريتانيا في العصر الحديث) مسيرة الشعر الموريتاني الفصيح إلى مراحل مترابطة. يقول: "إن الشعر الموريتاني قديمه وحديثه مر بعدة مراحل: مرحلة بدأت منذ القرن 11ﻫ إلى أواسط القرن 14ﻫ أو نهاية القرن 19م، ومرحلة بدأت منذ نهاية القرن 19م إلى أواخر الخمسينات – تقريبا-، ومرحلة بدأت مع بداية الاستقلال إلى اليوم". فهذا الرأي شبيه بالرأي السابق من حيث تحديد نشأة الشعر الفصيح في موريتانيا في القرن 11ﻫ.

ويرجع الأستاذ يحيى ولد محمدن نشأة الشعر الفصيح بموريتانيا إلى وقت مبكر. يقول: "وأرى أن الشعر الموريتاني – باللغة العربية – موغل في القدم. ويمكن افتراض قدومه مع الفاتحين العرب المسلمين الأوائل في القرن الأول والثاني للهجرة. وإذا كانت المصادر الشعرية تعوزنا إلى الآن، فإن الشعر والعرب صنوان لا يفترقان". ويقول أيضا: "ولكن كثيرا من دارسينا يطيب لهم أن يرجعوا أوائل نشأة الشعر الموريتاني إلى القرون الأخيرة التي هي في الواقع عصور ازدهاره لا عصور نشأته…!! فالذين يرون نشأة الشعر الموريتاني راجعة إلى القرن العاشر فما بعده مع الذيب الكبير وبوفمين وابن رازكه ينسون أو يتناسون أن البلاد في عهد المرابطين (القرن 5و6ﻫ) كان بها علماء ونَظَّامون وشعراء سواء كان ذلك في آزوكي أو بمراكش أو أغمات أوريكه".

ويندرج أغلب النتاج الشعري الموريتاني الفصيح في المحاور الرئيسة التالية:

· الشعر الديني: ومن أبرز موضوعاته التوسل والتضرع، والمديح النبوي، والزهد والتصوف، والاستسقاء والاستشفاء والتظلم.

· الشعر التعليمي: ومن موضوعاته البارزة نذكر: الوعظ والإرشاد – الإفتاء والنوازل – التأريخ لوفيات الأعيان والكوارث – الألغاز والأحاجي – السيرة النبوية – الأدب والبلاغة.

· الشعر الاجتماعي: وتنضوي تحت لواء هذا المحور عدة فنون، أبرزها: المدح – الهجاء – النقائض – الغزل – الإخوانيات – الرثاء – الوصف – الفخر – العتاب والشكوى – الحنين إلى الأوطان – الفكاهة والمجنون – الحكمة – المساجلات الشعرية – الأمثال – التقاريظ والإطراءات.

· الشعر الإصلاحي السياسي: ويراد به "ذلك الشعر الذي يدعو إلى الإصلاح الاجتماعي والسياسي، ويحارب الفساد والظلم الاجتماعي، ويدعو إلى الجهاد في سبيل الله وتنصيب الإمام العام للمسلمين وإقامة الدولة الإسلامية المركزية، ويقف في وجه العادات المخالفة لكمال التوحيد والتقاليد التي تخالف السنة النبوية، ويدعو إلى نبذ ظاهرة التميم والسدل وغلق باب الاجتهاد والركون إلى التقليد…!"([17]). ومن الشعراء الموريتانيين الذين نظموا في هذا الاتجاه نجد الشيخ محمد ألمامي بن البخاري (ت 1278ﻫ) الذي دعا إلى الجهاد وتنصيب الإمام العام للقضاء على حالات الفوضى والاضطراب والفساد. وأيضا العلامة ماء العينين بن العتيق (ت 1376ﻫ/1957م) الذي حث على مجاهدة المستعمرين وعدم بيع الدين بالدنيا الفانية. ومنهم كذلك المرحوم أجدود بن أكتوشن العلوي الذي دعا إلى المقاطعة الاقتصادية للغرب عامة ولفرنسا خاصة… ويرتبط بهذا النوع الشعري الشعر الوطني الداعي إلى الاستقلال السياسي عن الإدارة الفرنسية، وكذا الشعر القومي الذي يَأْدِب إلى الوحدة العربية… وهناك محاور أخرى قليلة الأهمية، مثل: شعر الدخان، وشعر الأتاي (أو الشاي الأخضر)…إلخ

الفصل الرابع: التصنيف الداخلي للشعر الموريتاني الفصيح
إذا كان الشعر الموريتاني الفصيح "مازال يعاني – أشد المعاناة – من عدم جمعه وتدوينه ونشره ودراسته والتأريخ لنشأته وتحديد أوجه تطوره ومكانته في الأدب العربي عامة والأدب المغاربي خاصة، فإنه ما يزال – كذلك - يعاني من إشكالية تصنيفه الداخلي أو على الأصح تصنيف القلة القليلة المتاحة منه رغم تعدد المحاولات في الدراسات والأبحاث الأكاديمية وغير الأكاديمية المنجزة حتى الآن، والتي غالبا ما تتعجل في إصدار أحكامها النقدية في الوقت الذي لم تكتمل فيه بعد أوراق القضية المطروحة للنطق بالحكم النهائي فيها !! ".([18])

فبالرغم من صعوبة هذا التصنيف، ظهرت مجموعة من الجهود والمحاولات الرامية إلى تصنيف الشعر الموريتاني الفصيح تصنيفا داخليا علميا يقترب من الحقيقة والموضوعية. وتجاوزت هذه الجهود خمس عشرة محاولة ما بين منظرة أو ناقدة، مؤيدة أو معارضة. وقد أورد أحمد ولد حبيب الله منها سبع محاولات تصنيفية فقط. وسنكتفي في هذا المقام بالحديث عن ثلاث من تلك المحاولات، والتي نراها أكثر أهمية ورواحا.

-أ- تصنيف ولد أَبَّاهْ:

لقد درس الدكتور محمد المختار ولد أباه الشعر الموريتاني خلال الفترة الممتدة ما بين 1650 و1900م، وقدم دراسته هذه باللغة الفرنسية لنيل الدكتوراه (نوقشت في باريس عام 1969م)، وكانت بعنوان (مدخل لدراسة الشعر الموريتاني: 1650 – 1900م). وقد عربها وقدم لها محمد عبد الرحمن ولد آبَّ في بحثه للمتريز (الإجازة العالية) لدى تخرجه في كلية الآداب والعلوم الإنسانية (جامعة نواكشوط) عام 1986. يقول أحمد ولد حبيب الله عن دراسة ولد أباه: "والحق أنها دراسة رائدة في مجالها وخطوة جَرِيئة في ميدان النقد الموريتاني المعاصر"([19]). وقد جعل ولد أبّاه هذه الدراسة مقدمة لكتابه القيم (الشعر والشعراء في موريتانيا)، الذي صدر في تونس عام 1987 عن الشركة التونسية للتوزيع والنشر.

صنف ولد أباه شعراء الفترة المعنية بالدراسة إلى ثلاثة اتجاهات (أو مدارس) كبيرة، معتمدا معيار العصر الأدبي. وذلك على النحو الآتي:

· الاتجاه الأول: ومثل له بعبد الله بن رازكه (ت 1144ﻫ) ومحمد سعيد اليدالي (ت1166ﻫ) والذيب الكبير والمصطفى بن أبي محمد (ق 12ﻫ) المعروف باسم (بوفمين المجلسي)… وقد أنشأ هؤلاء مدرسة خاصة سماها ولد أباه "مدرسة البلاغة والبديع"؛ لأن أعلامها كانوا شديدي الاحتفال بالصنعة البديعية.

· الاتجاه الثاني: وقد سماها "مدرسة أنصار القديم"، لأن شعراءها كانوا مولعين بتقليد الشعر الجاهلي مبنى ومعنى، ومن ممثلي هذا الاتجاه نجد: امحمد بن الطلبه اليعقوبي (ت 1272ﻫ)، ومحمد بن حنبل (ت 1302ﻫ)، وغيرهما من شعراء القرن 13ﻫ الذين يسيرون في هذا المتَّجَه.

· الاتجاه الثالث: أو "المستقلون". وقد حاول أصحاب هذا الاتجاه خلق فن شعري موريتاني أثيل بعيدا عن تقليد النموذج الجاهلي وخدمة البلاغة والبديع. وقسم ولد أباه هذا الاتجاه إلى ثلاث مجموعات، هي:

*مجموعة سيدي محمد بن الشيخ سيدي (ت 1286هـ)

*مجموعة حرمة بن عبد الجليل (ت 1243هـ)

*مجموعة امحمد بن أحمد يُورَه (ت 1340هـ)

-ب- تصنيف ولد عبد القادر:

صنف أحمد ولد عبد القادر الشعر الموريتاني الفصيح إلى أربع مدارس كالتالي:

· المدرسة الجاهلية: ولعل أبرز من يمثلها امحمد بن الطلبه الذي كان ينظم الأشعار على منوال الشعر الجاهلي.

· المدرسة البوصيرية: ومثل لها بالمدائح النبوية والصوفية في ديوان سيدي محمد بن الشيخ سيدي ومحمد بن محمد.

· المدرسة القاموسية: ومثَّل لها بمحمدُ النّانه بن المعلى (ت1402ﻫ)، ومحمد السالم بن الشين، وآخرين.

· المدرسة الشعبية: ويعد امحمد بن أحمد يوره رائدها. وهو – فضلا عن خوضه في الشعر العامي / الحساني – يكتب الشعر الفصيح، وفي أغراض شتى.

وقد عقب ذ. أحمد سالم ولد محمدُ على تصنيفي ولد أباه وولد عبد القادر قائلا: "… ومن الواضح أن هذين التصنيفين يفتقران إلى ضبط الأسس وانسجامها ووضوحها.. ويغلب عليهما التعميم الذي يتغاضى عن التنوع في شعر الشاعر الواحد، بل التباين أحيانا الذي يترتب عليه أن شعر الشاعر الواحد يكشف عن تجاوب مع فترات وشعراء من عصور متعددة".

-جـ- تصنيف ابن اكاه:

صنف ذ. محمد الحافظ بن أكاه في بحثه المعنون "بجولة في أدب شنقيط"([20]) الشعر الموريتاني الفصيح إلى مدارس أربع، هي:

· المدرسة الأولى: ويمثلها ابن رازكه، وتعنى بالتلوين الأدبي والصياغة الأسلوبية. أوهي (مدرسة البلاغة والبديع) كما يسميها ولد أباه.



أضف الى مفضلتك


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التصنيفات : تحقيقات | السمات:تحقيقات
أرسل الإدراج | دوّن الإدراج



اكتب تعليــقك
يجب ان تسجل الدخول لكي تتمكن من التعليق



الإسم الذي سيظهر على التعليق
مشتركي مكتوب
سجل دخولك
مستخدم جديد.. سجّل الان!

تذكر كلمة السر


« مارادونا يعود قريباً للتألق في عالم كرة القدمليفربول يعيد تصميم ملعبه الجديد »شنقيط ياعنوان رمز هويتي ومحط رحلي إن أنخت مطيتي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق